المادة    
نجد أن كثيراً من المهزومين أو المخدوعين يقولون: إن هذا الدين دين دعوة فقط لا جهاد ولا قتال فيه، وإنما يدعو النَّاس إِلَى أن يؤمنوا به بطواعيتهم وباختيارهم، ويستدلون بقوله تعالى: ((أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)) ويقول: قال تَعَالَى: ((لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)) [البقرة:256].
إذاً: ليس في الإسلام قتال من أجل الدين ولا جهاد، فإن قلنا: فهذه الفتوحات الإسلامية، والغزوات النبوية قرابة ثلاثين غزوة وقرابة المائة سرية، والصحابة من بعده وصلوا إِلَى نهاية العالم من جهة الغرب إِلَى المحيط الأطلسي، ولم يكن معروفاً في ذلك الوقت أن وراء هذا المحيط عالماً آخر.
وتوغلوا من جهة الشرق حتى وقَّع لهم ملك الصين على دفع الجزية، ولم يبق شيء من العالم إلا أوروبا وهي قبائل همجية في الشمال وأجزاء قليلة في الجنوب، كيف يكون هذا المجد وهذا الكسب؟ قالوا: هذه حروب دفاعية فقط، فقريش أرادت أن تعتدي عَلَى النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقاومها وحاربها ويستدلون بقوله تعالى:((وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)) [البقرة:190].
فيأخذون هذه الآية مع الآيتين السابقتين ويشكلون منها قواعد وأحكام يقررونها، وهي أن هذا الدين لا جهاد فيه فيُقَالُ لهم: إن معنى قوله تعالى:((لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً))أنه قد كتب أزلاً وقدراً أن أناساً سيموتون عَلَى الكفر، وستمتلئ منهم جهنم، أما قوله:((أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)) فمعناها: أنهم لن يؤمنوا مهما بذلت وحاولت، وقد اختاروا الكفر بإرادتهم واختيارهم، وهذا مطابق لما قد كتب عليهم كوناً وقدراً.
وليس المقصود من هذا أنك لا تجاهدهم، بل معناها: حتى وإن جاهدتهم فلن يؤمنوا، سواء دعوتهم سراً أو جهراً بالحكمة أو السيف؛ لأنك لا تستطيع أن تكره النَّاس حتى يكونوا مؤمنين، فقد اختاروا ذلك اختياراً، ولن يرجعوا عن ذلك، ولا يمكن واقعاً أن يتحول النَّاس إِلَى أمة واحدة، فاقتضت حكمة الله تعالى وتمت بذلك كلمته أن يكون النَّاس أمة خير وأمة ضلال، وقد جعل الله لكل نبي عدواً من المجرمين لحكمة
.
إذاً: لا تستغرب أيها النبي لأن لك أعداءً، وأنت تحرص عَلَى هدايتهم ومع ذلك لن يهتدي أحد أبداً.
ولاعلاقة لهم في كونك تجاهدهم أو لا تجاهدهم، فأمر الآية يتحدث عن أوامر كونية أزلية، وليس عن أوامر أو أحكام شرعية تعبدية؛ فحتى مع الجهاد -وهو مشروع بلا ريب لكي يدخلوا في الدين- لن يؤمن إلا من كتب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى له الإيمان، لكن يجب عليك أن تقاتل كما قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ)) [التوبة:73] أي: جاهدهم، لكن ليس في حولك ولا في قوتك أن تدخل الإيمان إِلَى قلوبهم، ولم يكلفك الله به، ولكن كلفك أن تدعوهم وأن تجاهدهم، إذاً لا تعارض ولا تناقض بين هذا وذاك.
  1. الفرق الضالة التي أنكرت الجهاد

    الذين أنكروا الجهاد كثير منهم الروافض ولهذا سموا الخشبية لأنهم صنعوا لهم سيوفاً من الخشب، وَقَالُوا: لا جهاد إلا مع الإمام، وما دام أن الإمام لم يتول الحكم وكان الأئمة غائبين أو مجهولين، فالسيوف تكون من الخشب، فلما أن أختفى -بزعمهم- الإمام الثاني عشر ودخل السرداب، قالوا: لا جهاد، ولا جمعة، ولا أي حكم من الأحكام التي تتعلق بالإمامة، ولو كانت عَلَى مذهبهم وفقههم، إلاّ إذا خرج الإمام من السرداب.
    ولهذا خالف منهم من خالف، وأصبح الذي يخالف منهم يعد مجدداً أو نائباً عن الإمام، لأنه غير هذا الحكم، الذي لا يقوم به إلا الإمام
    ، ومع ذلك اتبعوه بزعم النيابة عن الإمام، وكذلك لما انتشر الاستعمار في دول العالم الإسلامي، أراد أن يقضي عَلَى فكرة الجهاد قضاءً مبرماً، وكذلك الأفكار الوافدة تأثر بها عدد كبير من الْمُسْلِمِينَ.
    فالاستعمار أوجد القاديانية التي من أهم أركان دينها إنكار الجهاد، وكَتَبَ القادياني الذي ادَّعى النبوة يقول: إنه يجب إعطاء الولاء للحكومة البريطانية، لأنها حكومة هيأها الله واختارها وأورثها الأرض، فلا يجوز لأي مسلم أن يخرج عليها أو أن يجاهدها، ومن فعل ذلك فقد خالف أحكام الدين وأوامر الله، وكذلك البهائية وغيرها من الفرق التي أنكرت الجهاد.
  2. الغزو الفكري ودوره في القضاء على الجهاد

    أما بالنسبة للغزو الوافد الذي اصطنعه الاستعمار وتأثر به كثير من الْمُسْلِمِينَ، فقد خُيَّلَ إليهم أن الجهاد خاصٌ بعصور الهمجية والانحطاط.
    يقولون: إن الإِنسَانية لما كانت في عصور الهمجية والانحطاط -في المرحلة التي أشار إليها المحللون والمفكرون الغربيون ومنهم كونت صاحب المدرسة الوضعية وغيرها- مرت بثلاث مراحل:
    المرحلة الأولى: مرحلة الخرافة، والسحر، والكهانة.
    المرحلة الثانية: مرحلة الدين.
    والمرحلة الثالثة: مرحلة العلم، ومرحلة الدولة الحديثة التي ظهرت ابتداءً من الثورة الفرنسية التي أعلنت مساواة النَّاس في الحقوق والواجبات، ولذلك فليس هناك من مجال لأن يقتل الإِنسَان أخاه الإِنسَان
    وهكذا يصدرون هذا الكلام لنا.
    ولم يشهد العالم حروباً دامية مدمرة مثل الحروب التي دارت في أوروبا منذ الثورة الفرنسية إِلَى الآن، مثل حرب السبعين وهي الحرب المشهورة بين الإنجليز والفرنسيين، والحروب بين ألمانيا وفرنسا، والحروب بين ألمانيا وانجلترا "الحربان العالميتان" حروب طاحنة، ويقولون: إن ميثاق الثورة الفرنسية -الذي أصبح بعد ذلك أكثر تطوراً بميثاق حقوق الإِنسَان- قد تكفل بأن يعيش العالم الإِنسَاني أسرة واحدة -يسمونها الأسرة الدولية- وكلهم إخوة وأحبة، وعلى ضوء مواثيق الأمم المتحدة لا يكون هناك قتال بين الناس، وعقدوا اتفاقيات تسمى اتفاقيات تحريم الحرب، منها اتفاقيات باريس، ثُمَّ ما بعد الحرب العالمية الثانية، وكذلك اتفاقيات تحريم الرق، ويقولون: إن الإِنسَان أصبح إنساناً حراً متحضراً متطوراً.
    وقد تسامى وترفع عن عصور الانحطاط والجاهلية، التي كَانَ الإِنسَان يهاجم فيها أخاه الإِنسَان ويغزوه، وهذا الكلام يصدر إِلَى العالم الإسلامي ويشاع ويكتب، بل حتى كتب عن الجهاد في الإسلام بما يؤيد هذه الفكرة الاستعمارية والخديعة الماكرة، في حين أن الغرب لم يتخلَّ قط عن الأخذ بأسباب القوة، فالذي يُدرس في أوروبا يقال علناً في كل مكان وهو: "إن الحياة صراع والبقاء للأقوى"، هذا قانون علمي يدرَّس كنظرية علمية في الأحياء وفي الجيلوجيا وفي غير ذلك.
    وكذلك في واقع الحياة، ولهذا لا مجال لرحمة ضعيف هزم، في حين أنهم يصدرون إلينا المعاني الإِنسَانية التي تتضمن ترك هذا الواجب العظيم من الواجبات التي فرضها الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى هذه الأمة، فتصبح الأمة الإسلامية ذليلة تابعة، وقد أسهمت الصوفية والمرجئة وغيرهم في إلغاء الجهاد، وفي كتاب أهمية الجهاد في نشر الدعوة الإسلامية للدكتور علي العلياني تفصيل لهذه الأمور.